الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

النشأة التاريخية لمفهوم العولمة :




إن العولمة Globalization كمفهوم هي أقرب ما تكون إلى العملية الحضارية المتكاملة cultural integrated process  تسعى إلى صياغة مجموعة التحولات الاقتصادية والسياسية والمعلوماتية التي طرأت على عالمنا في العقود الثلاثة الماضية بطريقة تدعم مسارا محددا لهذه التحولات وتخفي في الوقت نفسه الكثير من تناقضاتها وسلبياتها . وتدعيم هذا المسار المحدد في حد ذاته ينطوي على تهميش لمسارات أخرى ، واحتمالات أخرى مضمرة في نفس مجموعة التحولات التي اختير هذا المسار العولمي منها وتم تشييده على حسابها . و العولمة على نحو ما أوضحنا سلفا لا تزال في طور الصيرورة وهي البديل الجديد لما كان يسمى قديما بالايديولوجيات الشاملة أو الشمولية ليس فقط لأن شموليتها تتجاوز في طموحها كل مطامح الشموليات القديمة لتفرض نظامها على الكرة الأرضية برمتها ، أو على كوكب الأرض كله ، ولكن أيضا لأن الصراعات التي تتم على المستوى الدولي لفرض هذه الأيديولوجية الجديدة لا تقل شراسة في قسوتها ولا إنسياتها ومعادلتها للحرية الفردية عن تلك التي قتلت نقدا لفرضها القسري للأيديولوجيات الشمولية القديمة .ولأن الثمن الذي يدفعه المجتمع الإنساني على مذبح هذه الأيديولوجية الجديدة لا يقل دموية وبشاعة عن ذلك الذي يدفعه الإنسان ثمنا للأيديولوجيات الشمولية القديمة .

وعندما نتحدث عن العولمة بهذا المفهوم الذي يسعى إلى فرض هيمنته الأيديولوجية على الكرة الأرضية كلها ، فإننا نتحدث عن مجموعة من الظواهر أو مجموعة من العناصر المتداخلة ، تتخلق من اجتماعها وتفاعلها وتكاملها مع آلية هذا المفهوم أو النظام الشامل . وليس عن مجموعة من الملامح والسمات التي كان بعضها معروفا للمجتمع البشري طوال قرون . فمن ملامح هذه الظاهرة المسماة بالعولمة ازدياد علاقات التبادل الاقتصادي بين الأمم ، وتسارع معدلات رؤوس الأموال ، وانتشار المعلومات أو الأفكار ، وتأثر أمة بقيم وعادات غيرها من الأمم ، وتفشي ظاهرة الهيمنة والتبعية السياسية بشكل غير مسبوق ، ولكن هذه الملامح كلها قديمة قدم تطور الرأسمالية ذاتها ، وما استمرار بعضها في الظاهرة الجديدة إلا دليل العلاقة بين العولمة وماسبقها من ظواهر حضارية . فالعولمة هي نتاج تضافر مجموعة من العوامل وهي إفراز التفاعل بينها ، فليس في استطاعة أي عدد من العناصر بمفردها أن تخلق هذه النقلة الحضارية التي تعنيها العولمة ، ولكن تفاعلها وتكاملها وصيرورتها هي التي بلورت طبيعة هذا المفهوم المعقدة .

ولعل من أبرز الظواهر أو العناصر المشاركة في صياغة العولمة هي حركة الاتصالات وثورة المعلومات أو بالأحرى تدفق المعلومات بسرعة أكبر وبقدرة أعظم على اختراق الحدود القومية ، وانتشار الكمبيوتر والانترنت وما أدخل من تغيرات أساسية على بنية العمل والإنتاج والتسويق ، وانتقال الأفكار بين الثقافات بشكل مطرد ، والاهتمام بحركة التقنية وتدفق المعلومات والتقنيات الحديثة والتحكم فيها وفي توزيعها .

ويرى " مارشال ماكلوهان" Marshal Mcluhan  أن فكرة العولمة فكرة قديمة ترجع إلى فترة الستينات وبخاصة عندما استخدم مفهوم القرية الكونية Global Village ، وهو وثيق الصلة بمفهوم العولمة ، حيث اهتم " ماكلوهان" ببلورة فكرة تقليص سرعة حركة المعلومات للمسافات الجغرافية في كرتنا الأرضية التي تحولت إلى قرية صغيرة ، وتغير مفهومنا للزمن والمكان تغير مفهومنا لثقافة والإنسان ذاته ، وفتح آفاق جديدة  أمام الإنسان مما ترتب عليه من بلورة طاقات جديدة واقتحام مجالات لم يعرفها من قبل ، ومع هذا لم يظهر مصطلح العولمة في الستينات .

ويكشف التحليل السوسيو- تاريخي في حقيقة الأمر أن فكرة العولمة ليست جديدة ، فلم تظهر فجأة أو طفرة واحدة ، وإنما لها تاريخ طويل أعطى لهذه الظاهرة مكوناتها الزمنية والفعلية ومن ثم أخذت أسماء مختلة ، ففي فترة من الفترات كان أسمها " النظام الأوروبي " وفي فترات أخرى أصبحت " الحرب الباردة " ثم في الفترة الأخيرة أصبح أسمها "العولمة" . لكن كل هذه الأسماء تستهدف فكرة فكرة واحدة هي هيمنة الغرب على الشرق . فالعولمة ف حقيقة الأمر هي هيمنة وليست تنافسا ، وأنها لا تسمح بالتنافس بل تطرحه ولكن في النهاية هي الهيمنة ، لأن المطلوب من المنتاسفين ألا يمتلكون من عناصر القوة مما يجعلهم يتنافسون . هذه المسألة تاريخيا تعود إلى فترة القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر . وهذه الفترة كان فيها دولة كبرى أسمها الدولة العثمانية ، وكانت مخيفة للغاية وبمعيار القوة كانت متفوقة ، ومن هنا أطلق الغرب الأوروبي مصطلحا اسمه ( المسألة الشرقية ) عبارة عن كيف يتعامل الغرب مع دولة قوية قوية اسمها الدولة العثمانية ، لها طبيعة إسلامية في مواجهة الغرب المسيحي ، ولماذا كانت بهذه القوة لأنها هددت أوروبا وأخضعت معظم البلقان لسيطرتها .

لكن في منتصف القرن الثامن عشر بدأ يتغير ميزان القوى لصالح الغرب ضد الدولة العثمانية وبخاصة مع ظهور الثورة الصناعية وما أحدثته من تغير نظام الإنتاج والنظام السياسي ، ومن ثم سقوط الدولة العثمانية وسيطرة الغرب ، ومن ثم تغيرت مجمل العادات والتقاليد (التغير الثقافي) والجوانب الاقتصادية وأنماط الإنتاج وبرز هنا جانب الصراع الدولي من جانب والصراع داخل المستعمرات من جانب آخر ، والتأرجح بين نظام غربي وآخر خلال تلك الفترات التاريخية والانسياق الغربي بشكل يكاد يكون انسياقا كاملا (الاستعمار المباشر) وسيطرة النمط الغربي على معظم أنحاء العالم . ثم مالبث الحال إلى أن ظهر النظام الشيوعي في روسيا عام 1917 ، وهنا ظهرت تقلبات في العلاقات الدولية حيث أخذ الصراع الدولي يحتدم بين القوتين لبسط نفوذهما على المستعمرات ، ولكن مع ظهور تناقض ثالث وهو النازية والفاشية أخذت القوتان تتحالفان ، وبعد التخلص من التناقض الثالث عادت القوتان لحلبة الصراع الدولي ، الاتحاد السوفيتي يساعد الدول المستعمرة للقيام بثورات تحررية ضد الاستعمار الغربي .

 ولكن الغرب عمل بمنهج آخر حيث بدأ بتغيير الثقافة عن طريق المساعدات وظهر مشروع عام 1947 أطلق عليه مشروع (مارشال) وهو مشروع الاستقطاب الثقافي في القرن التاسع عشر حتى لاتتحول البلاد إلى النظام الشيوعي وهو مشروع النقطة الرابعة .

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أخذ الصراع الدولي يشتد  قسوة بين القوتين العظمتين لبسط سيطرة كل منهما على الآخر ، ومن ثم ظهرت الحرب الباردة التي من خلالها قضت الولايات المتحدة بل ونجحت في ضرب الاشتراكية وبسط سيطرتها على العالم ، ومن هنا بدأت فكرة أو مصطلح العولمة يظهر إلى حيز الوجود في الفترات الأخيرة وبخاصة في تسعينيات القرن العشرين .

إننا نعتقد أن ما يسمى عولمة يمكن فهمه بأفضل صورة بأنه يشير إلى مشكلة الشكل التي يصبح العالم من زاويتها موحدا ولكن دون أن يندمج  بصورة وظيفية ساذجة بعبارة أخرى فالعولمة كموضوع هي مدخل فكري لمشكلة النظام العالمي بأشمل معانيه ولكنها مع ذلك كدخل ليت له وسيلة إدراكية دون مناقشة مستفيضة للمسائل التاريخية والمقارنة . كما أنها ظاهرة تتطلب ما يعرف عادة بالتناول المتعدد الأفرع للعملية . وقد تم تناول المجال العام لدراسة العالم ككل من خلال مبحث العلاقات الدولية ( أو الدراسات الدولية ) وقد تعزز هذا المبحث في أثناء بعض مراحل عملية العولمة الكلية ويعاد تكوينه حاليا بالإشارة إلى التطورات التي طرأت على سائر المجالات العلمية ومنها الدراسات الإنسانية ، والحقيقة أن أول نشاط مركز لدراسة العالم ككل من جانب علماء الاجتماع في الستينيات كانت من زاوية فكرة علم اجتماع العلاقات الدولية . ولا شك أن غالبية علماء الاجتماع حتى الوقت الحاضر يتناولون المسائل فوق المجتمعية من منظور العلاقات الدولية . إلا أن هذا الاتجاه أخذ في الانحسار مع تصاعد التساؤلات حول ما يسميه  "مايكل مان  M Mann" التصور المركزي للمجتمع . وهناك محاولات لإيجاد مبحث جديد لدراسة العالم ككل بما في ذلك النظام العالمي المعاصر .

وفي حقيقة الأمر إن النظرية الاجتماعية بأوسع معانيها أي كمنظور يمتد عبر العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية قد اهتمت بدراسة هذه الظاهرة "فماركس وأنجلز" قد تكلما عن هذه الظاهرة نفسها ظاهرة العولمة منذ ما يقرب عن مائة وخمسون عاما ، عندما كتبا في البيان الشيوعي أن السلع التي تخرج من مصانع الرأسمالية ستأخذ في الانتشار شرقا وغربا ، ولن يفلح في صدها أي سور ولو كان بمناعة سور الصين العظيم ، ومن ثم فكثرة الحديث عن العولمة في السنوات العشر الأخيرة لابد أن يكون سببها ليس نشأة الظاهرة بل نموها بمعدل متسارع . ومن أي زاوية ننظر بها إلى العوملة سواء من زاوية معدل انتقال الأشخاص ومعدل انتقال السلع أو رؤوس الأموال أو المعلومات أو الأفكار نجد وراء هذا كله تطورا في التكنولوجيا ( أو تقدما في جميع الأحوال هو محل نظر وقابل للجدل) فالعولمة بنت التطور (أو التقدم) التكنولوجي سواء تمثل هذا التطور في اختراع العجلة أو البوصلة أو المطبعة أو الآلة البخارية أو التلغراف أو الطائرة أو التليفزيون أو الكمبيوتر . والاعتقاد الشائع بأن العولمة ظاهرة حتمية لا يمكن صدها أو الوقوف في وجهها ، سببه الاعتقاد بأن التطور ( أو التقدم ) التكنولوجي هو كذلك ظاهرة حتمية . كما قدمت أيضا نظرية التبعية تحليلا لهذه الظاهرة وبخاصة دور الاستثمار  الأجنبي المباشر كآلية جديدة رئيسية من آليات العولمة ، وما تعنيه العولمة لبلدان الأطراف من آثار لتلك البلدان. 

فالعولمة هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء أي تحول علاقات الملكية وليس التحول السطحي أي تحول علاقات التبادل والتوزيع التي صارت منذ زمن بعيد ، وهذا يعني الانتصار من حيث المبدأ وفي كل مكان تقريبا لنمط معين من أنماط الملكية ، ولنمط معين من السيطرة على وسائل الإنتاج ولنمط معين من إنتاج الثروة وتوزيعها وتداولها وتبادلها في كل مكان على سطح الكوكب . والوسيلة الرئيسية التي تستخدمها الشركات الأجنبية العملاقة لتحقيق التحول هو الاستثمار الأجنبي المباشر في مجتمعات الأطراف ودولها واقتصادياتها والجديد هنا أن هذا الاستثمار الكلاسيكي ( المواد الأولية ، التعدين ، المواصلات ...) إلى الاستثمار في الصناعة وغيرها من المجالات الإنتاجية المباشرة وفي ما تحتاجه هذه من تنظيمات وتوابع ولواحق ومؤسسات مالية ومصرفية ودعائية واتصالاتي’ وخدماتية دون أن يعني ذلك التخلي عن استثمارات النوع الأول .

وهذا التحول مهم جدا لأن الاستثمار الأجنبي المباشر في الإنتاج ظل محصورا في الدول الرأسمالية المركزية ذاتها طيلة الفترة الإمبريالية الكلاسيكية أولا ولأن وقع هذا الاستثمار في مجتمعات الأطراف سيكون مختلفا عن وقعه في مجتمعات المركز ثانيا ، ولأن الأرباح ستخرج في معظمها من دول الأطراف باتجاه مواقع أخرى من العالم ثالثا ، ولأن هوية الرأسمال الأجنبي المصدر لم تعد محددة أو معروفة كما كانت في السابق أخيرا ، ومن ثم فإن ثورة المعلوماتية والاتصال لا تشكل جوهر العولمة ، بل عرضا من أعراضها . هي لازمة لضبط العمليات الإنتاجية المعقدة التي تقوم بها الشركات العولمية وتنسيقها ، وتسييرها لأن تلك العمليات مبعثرة جغرافيا وثقافيا . ولذلك فالعولمة ليست إفرازا من إفرازات ثورة المعلومات والاتصالات والإعلام ، بل هذه شروط ضرورية لها وإن كانت غير كافية ، فلابد من المضاربات العالمية في أسواق العملات والبورصات والأوراق المالية والأسهم والسندات وكلها تشكل مظاهر للعولمة ، أما جوهرها فيبقى متمثلا في عولمة عولمة الإنتاج نفسها الأرض ورأس المال والعمل .

ومن ثم أخذ مفهوم العولمة يظهر حديثا ، ولكننا نرى أن هناك ارتباطا وثيقا بينها وبين الحداثة والتحديث وما بعد الحداثة والتحديث . وليكن واضحا أنه بمحاولة تبرير الافتراض الذي أقدمه ، وهو أن العمل في إطار العولمة ينبغي أن يقتصر على الماضي القريب نسبيا . ونرى أن مفهوم العولمة في حد ذاته ينطبق على سلسلة خاصة من التطورات المتعلقة بالبنية الملموسة للعالم ككل . وينبغي ربطه مباشرة بالعالم الذي نحيا فيه ، وأن يسهم في فهم صورة النظام العالمي . وهناك ميل قوي لدى البعض للتأكيد على أن العالم الواحد في عصرنا يمكن تفسيره من ناحية عملية بعينها أو عامل واحد بعينه – كالتغريب أو الإمبريالية أو الحضارة بمعناه الدينامي – والحقيقة أن مشكلة العالمية يحتمل أن تصبح أساسا لصراعات ايديولوجية وتحليلية في القرن الحادي والعشرين .

                                                                                Dr.sayed gonim




هناك تعليق واحد:

  1. Titanium teeth Dog - a metal dog for dog training
    These teeth and teeth are used micro touch hair trimmer for training dogs titanium granite in the dog training programs. They can microtouch titanium trim as seen on tv be used as a training area for both titanium white octane blueprint an titanium athletics elite and

    ردحذف